الحب الأول.. يا له من لفظ جميل رائع، يرفرف القلب بمجرد سماعه للحظة الأولى، ثم ما يلبث أن يصاب بالإحباط والحزن العميق.. فأين هو هذا الحب في زمن "التيك أواي" الذي نحياه.. في زمن الرتم السريع والحياة المادية.. في زمن مليء بالتضارب والتناقض حتى في الأفكار والمشاعر؟.
ثم يأتي سؤال آخر مفاده هل الحب الأول هو أول إحساس نشعر به تجاه الآخر، أم أنه الحب الحقيقي الذي يترك علامة قوية في قلوبنا رغم مرور الزمن، ورغم الظروف التي غالبا ما تحول بيننا وبينه؟!.
"الحب الأول" سواء بمعنى الكلمة أو مفهومها يترك بداخلنا قيمة تظل قابلة للبعث كلما صادفنا إحساسًا دافئًا جميلاً عبر موقف معين، أو أغنية جميلة أو فيلم رومانسي مفعم بمشاعر ذات قيم ومبادئ، طاهرة بريئة خالية من أي غرض سوى الحب ذاته.
وإذا سألت أي شخص عن الحب الأول، فلا بد أن يتبادر لذهنه ذلك الحب الطاهر الذي كان في قلبه يومًا ما، أو الذي ما يزال في قلبه حتى الآن.. المهم أن الحب الأول هو الحب الطاهر، الحب الحقيقي المنزه من أي غرض أو غاية وهو دائمًا مرتبط بداخلنا بالقيم الجميلة كالتضحية والإخلاص والوفاء والإيثار والفداء و...
فإذا تذكرنا الأفلام الرومانسية التي تبقى في ذهننا نجدها تلك الأفلام التي تربط بين الحب الأول وبين قيم الجمال والأخلاق والفداء، مثل فيلم "رد قلبي" الذي ربط الحب الأول وبين حب الوطن، وغيره من الأفلام التي تكشف عن أن قيمة الحب لا تتجزأ وهي القيمة التي ترعرعنا عليها وعاشت في وجداننا حتى الآن.
ازدواجية التفكير
وهنا يأتي لغز محير تصطدم به عند سؤال شخص ما عن الحب الأول أو حتى الحب الحقيقي، حيث يصدمك بوابل من عبارات السخرية والنكران والتكبر، وذلك من قبيل: إنه "لعب عيال"، أو "هو وهم من تخيلنا"، "هو في حب في الزمن ده؟!"، وإذا كان أحدهم رومانسيًّا بعض الشيء يقول لك: "إنه خيال جميل يساعدنا على استكمال مسيرة الواقع".. ولكن في النهاية عندما يخلو كل شخص إلى نفسه نجده يبحث عن الحب في خيالاته أو كلمات أغنية أو فيلم رومانسي.
ولكن ماذا عن الجيل الجديد؟! هل هو لا يعترف بالحب الأول؟ ولا حتى الحب الأخير؟ أم أنه جيل لا يريد أن يحيا في الوهم، أم ترى أنه جيل يدرك الواقع أكثر منا؟ فلا يريد أن يكون منقسمًا على نفسه، فيحيا مثلنا في خيال يختلف كثيرًا عن الواقع؟! فربما هو جيل ضائع لا يعترف بالحب كقيمة، أو أنه جيل أكثر صدقًا مع نفسه؟!.
أين يكمن الخلل الحقيقي هل يكمن فينا نحن من عشنا الحب وأنكرناه وتنكرنا له، ومع ذلك نبحث عنه في ذات الوقت؟!
أم أن الخلل في الحب نفسه؟! أم يتحمله ذلك العصر وجيل العصر؟!
هذه الأسئلة طالما كانت تؤرقني؛ لأنني أومن بالحب عمومًا كقيمة وكجزء لا يتجزأ من كل القيم في حياتنا، ومن ثَم حاولت التحدث مع الشباب وطلبة الجامعة أثناء محاضراتي معهم، ففوجئت أن أغلبهم تسكن بداخله رغبة في الحب الصادق.
وقد تتبدى تلك الرغبة فقط من خلال عشقهم لأغاني "أم كلثوم" و"عبد الحليم حافظ" و"فريد الأطرش"، كما أنهم يحفظون عن ظهر قلب أفلام "أنا حرة" و"رد قلبي" و"بين الإطلال".. وغيرها من المعاني التي تقدمها تلك الأفلام التي تعجبت كثيرًا عندما وجدتها (المعاني) تعيش في وجدانهم، مثلما تعيش في وجداننا، ولكن الفرق هو أننا تعايشنا معها وعشناها أما هم فينظرون إليها على أنها قيمة من التراث، لا يستطيع أحد أن يصبو إليها أو يحياها.
من المسئول..؟
إن أصابع الاتهام تتجه إلينا بكل قوة، كيف نطلب من هذا الجيل أن نؤمن بالحب ذي القيمة والمعنى؟! وهو لم يعش الحب الأول الحقيقي الذي هو أول معنى للحب، هو ذاك النبع الذي لا ينضب والذي يمنح كل حب معناه.
الحب الأول الحقيقي الذي يفتقده جيل هذا العصر، هو حب الأم تلك الأم التي أصبحت مجهدة، متعبة من العمل خارج وداخل المنزل والتي لا تعطي وقتًا للتلاقي الفكري والعاطفي لأبنائها، وأحيانًا كثيرة تكون بديلاً أيضًا للأب الذي ذهب للعمل داخل أو خارج البلاد، ولكنه ذهب ولم يَعُد، وإن عاد فهو يعود ليلقي بجسده المنهك على سريره.
أما نحن فقد شربنا الحب الأول الحقيقي من حنان الأم واهتمامها ومن دعم الأب وتوجيهاته، شربناه من الجو الأسري، والدفء العائلي، وعلاقاته القوية، فكان الحب لدينا قيمة، حتى إذا حان وقت تلاقينا مع الحب العاطفي نجدنا نبحث عن مثل أعلى وقيمة حقيقية، تماثل ما رأيناه داخل البيت.
فغالبًا ما تحركت مشاعر حبنا العاطفي الأول نحو المدرس أو المدرسة، أو أحد أفراد العائلة ممن يحمل صفات الشهامة والشخصية والنجاح، وهي كلها مشاعر صحية وإيجابية، جعلت لنا مثلاً أعلى وقدوة نقتدي بها.
ورغم كل هذا فنحن أيضًا الذين ننكر الحب ونتنكر له، ونلقي باللوم على هذا العصر وجيل هذا العصر ونتحسر على المشاعر الجميلة والمعاني الرقيقة التي افتقدناها في هذا الزمن.
إننا لا بد أن نقف أمام المرآة، ونتساءل ماذا فعلنا مع أبنائنا؟! لماذا جعلناهم يغادرون دفء أحضاننا ليلقوا بأنفسهم طوال الوقت في أحضان "النت" و"المحمول" و"الفضائيات"؟ لماذا تخلينا عن دفء المشاعر والحب ليحل محلها برودة الآلات والأسلاك وجدران الغرف المغلقة؟.
إننا شربنا الحب الأول والدفء العائلي، ولكننا أنكرناه على أولادنا، ثم رحلنا نتنكر للحب عمومًا ونلقي باللوم على العصر وجيل هذا العصر.
وفي النهاية نتساءل لماذا نجد الجحود من أبنائنا؟! لماذا نفني أنفسنا من أجلهم وهم لا يدركون هذا؟! ولا يشعرون بمعناه؟ لماذا نجد فيهم أنانية وعدم شعور بالمسئولية لماذا؟ ولماذا؟ ونسينا أن فاقد الشيء لا يعطيه.. نسينا أن اللوم الأكبر يقع علينا نحن، نعم إننا لم نفتقد الحب ولكننا لا نعطيه.
لا تنكروا الحب ولا تتنكروا له، علِّموا أولادكم منذ الطفولة أن الحب نعمة، ولكنه فقط ذلك الحب المرتبط بالقيم والأخلاق.
كونوا المثل الأعلى والحب الأول داخل البيت ولا تخشوا على أبنائكم بعد ذلك من الحب خارج البيت، حيث سيرتبط الحب في أذهانهم بالمعنى والقيمة والتضحية والمسئولية.
تحيــــــــــــــــــــــــــــاتـي..ميـــــــــرو.. الشعنونة..